وبذلك تستجيب ثقافتنا لكلّ التطلّعات، وتتمثّل كلَّ القيم
التي تتيح لها السعي الإيجابي إلى تحقيق سعادة الإنسان في حياة تتوازن
فيها، وتنسجم مطالب الروح والعقل والجسد.) [
20]
إن هذه الوثيقة تُعطي الأسبقية للثقافة الوطنية وتؤكد على أن هذه الأخيرة هي التي تجذّر الهوية وتؤسس لأبعادها الإستراتيجية:
((… يجب أن تُعْطى ثقافتُنا الوطنية ثلاثة أبعاد
إستراتيجية منها: العمل على تأصيل الهوية الثقافية للشعب، وذلك بالنظرة
الشاملة إلى مسيرة حضارته، والاستقراء الواعي لمكاسبه التاريخية، ودعم
كيانه العربي الإسلامي، وإحكام تفاعله مع كل امتداداته الحضارية، وتوظيف
إيجابيات تراثه في خدمة وحدته، وتقوية مناعته ضد الغزو الثقافي والاستلاب
الفكري.))
2) ـ الدكتور العربي ولد خليفة في كتابه القيّم: "الجزائر والمفكرة التاريخية" [
21]
أبعاد ومعالم، يرى بأن: ((مثلثَ الهوية في هذا الوطن أساس
الوحدة وجوهر الوطنية. ففي طول الجزائر وعرضها أنماطٌ من القيم والشعائر
والسلوكيات تتفق في المنبع، وتتنوّع في أشكال التعبير، تجعل الملاحظ
والباحث النزيه يستخلص بسهولة، أن المضامين الثقافية هي حصيلةٌ لأخْذٍ
وعطاءٍ داخل مجموعة سكانية واحدة اندمجت فيها الثقافة العربية الإسلامية
والتراث الأمازيغي، إلى درجة تَـميُّزِ الجزائري عن غيره، وجعْله أقرب إلى
مُواطِنه الجزائري من أي شخص آخر.
ولا يقتصر التجانس على المقوّميْن الأساسيين: العقيدة
والثقافة، بل يمتدّ أيضا إلى الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد.. ومن هنا
فمثلث "الهوية" لدى هذه الأمة صلْبٌ: عقيدة، ثقافة، تاريخ اجتماعي مشتركٌ.
ممّا يشكّل ـ مرجعية ـ تَعْني مشتركات الأمة من عقيدة ولغة وإرث ثقافي
اجتماعي، يحدّد العلاقات بين الأفراد والجماعات، ويضع ضوابط السلوك
المتمثّلة في القيم والمعايير التي تلتزم بها الأغلبية من الناس، وتعمل
على إيصالها إلى الخلف من الأجيال اللاحقة.))
لن تتطوّر الثقافة الوطنية المُشكِّلة "للهوية" عندنا،
إلاّ إذا تحرّرت من أشكال الضغط والتوظيف السياسوي والاستخدام الذرائعي
للتراث من جهات متعددة، ما فتئت تطرح إشكاليات "الهوية" انطلاقا من
المسألة اللغوية، وهو طرْحٌ مسمومٌ نجني ثماره اليوم في كل مرافق حياتنا
بدءا بالنظام التعليمي، مرورا بإداراتنا ومرافقنا واقتصادنا، بل حتى في
مناحي الاتصال والتواصل بين الناس سيّما في المدن الكبرى الساحلية، حيث
أصبحت المسألة اللغوية مرادفة للهوية، بل أصبحت شرْخا في نسيج مكونات
الهوية الثقافية لهذه الأمة.
إن الغيرة على اللغة العربية الواحدة الموحّدة، ينبغي أن
لا تقلّ عن غيرتنا على الأمازيغية بكل لهجاتها، لأنها جزْءٌ من ذاتنا
التاريخية والثقافية، لكن أن تتحوّل المسألة اللغوية إلى برميل بارود قابل
للانفجار في كل مناسبة تُثار فيها قضية "الهوية الوطنية" عن حُسْن نيّة أو
سوءها، فهذا ما لا يريده أبناء هذا الوطن الغيورين عليه.
الخبير القانوني الجزائري عز الدين زعلاني الذي شارك في
سَـنِّ القانون الأساسي للمحافظة السامية للأمازيغية وكان عضوا فيها،
وعُرف بتدخلاته الصحفية التي ساهمت في توضيح وشرح العديد من المفاهيم ذات
العلاقة بملفّ الأمازيغية في الجزائر وشمال إفريقيا، يحذّر هذا الخبير من
خطر البلقنة اللغوية في الجزائر التي أصبح يُشار إليها بـ: "أزمة الهوية
الجزائرية: حيث يقول في حوارٍ له مع صحيفة الشروق اليومي:
((… الخطر يكمن في عدم التفريق بين المنظور اللغوي
للهوية، والمنظور التاريخي والثقافي للهوية. هذا الخلط تكرّس في الجزائر
بفعل تبنّي الدولة للطابع اللغوي للهوية. هذا المنظور القديم لنظرية
الدولة/ الأمة المبْني على معادلة: شعب + لغة = أمة، سقطت تاريخيا بعد أن
ساد أوروبا منذ ثلاثة قرون،. اللغة صارت وسيلة هيمنة ثقافية وليست مرادفة
للهوية مثلها مثل الدولار والأورو. المنظور الغير الصحيح في الجزائر
الساري المفعول، هو الذي أعاق اللغة العربية وأحال بينها وبين أن تترقّى
منذ أكثر من أربعين سنة. فعوض أن يتجه التعريب نحْو الترجمة والبحث
والنشر، اتخذ طابعا إثْنيا مثل مبدأ عروبة الجزائر.
نفس المفهوم غير الصحيح يحدث للمسألة الأمازيغية التي هي
امتدادٌ تاريخي للشعب الجزائري وشمال إفريقيا، وهي تهمّ كافة الجزائريين.
وهذا يختلف مع دعوة البعض الذين يعتبرون "الهوية الأمازيغية" عبارة عن
لهجات تخصّ الناطقين بها؛ ونتيجة لذلك فإن الأخذ "بالهوية اللغوية" من
شأنه خلْق جنسيات لغوية داخل الشعب الجزائري الواحد، وهذا مرفوضٌ لأنه
تجاوزٌ للأمة الجزائرية.
وللخروج من هذا المأزق الخطير ينبغي الرجوع إلى المنظور
التاريخي "للهوية". فالجزائري بهذا المنظور لم يتخلّ عن هويته المنصهرة من
آلاف السنين سواء كان يتكلم الفينيقية، أو اللاتينية، أو العربية، أو
التركية، أو الفرنسية، أو الإنجليزية.. هي خلاصة تكشف اتجاهه المتفتح على
العالم دون التخلّي عن هويته.)) [
22]
إن سؤال "الهوية" في علاقته مع صدمة العولمة التي هزّت كل
الكيانات في العالم ولا تزال، يُطرح من خلال برامج المترشحين وكأنه قضية
داخلية والجزائر تعيش في هذا العالم لوحدها، ويبدو أنه غاب عن هؤلاء أن
تأثيرات العولمة قد اكتسحت كل المساحات القريبة والبعيدة، واخترقت كل
الهويات القوية والضعيفة، إلاّ أن الفارق يكمن في "هويةٍ" قويةٍ متحصنةٍ
في موقع الدفاع إنْ لم نقل الهجوم و"هوية" هشةٍ ضعيفة، قابلة لضربات
التكسير والتفتيت.
العولمة تميل إلى إلغاء المبادرات الذاتية للشعوب. فلا بد
ّلها من إلغاء الذات نفسها، وذلك بإلغاء الهوية. فالهوية هي الحصن المنيع
للذات. هي التي تنشئها وتمنحها التميز والتفرّد وتحدد لها الاتجاه في
الحياة. الإنسان مشروع وجود وهذا ما يتجلّى على مستوى الفرد، ومستوى الأمة
على السواء. الإنسان في صميمه طموحٌ.. حلمٌ.. أمل.
هوية بين العدل وصنع الذاتحسّ "الهوية" في الإسلام هو حسّ الوجود المتميّز، حسّ
العدالة العميق، المتجذّر في النفس البشرية التي تأبى الظلم وتقاومه. إن
حسّ العدالة هذا هو جوهر الدين الإسلامي، والقصد الأساسي في الإسلام هو
مبدأ العدالة الناتج من قيمة الإنسان نفسه، فالإنسان ليس فردا فقط، فكل
فرد يمثل الإنسانية كلها. وهذا ما تقوله الآية الكريمة: (مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.).
هذه الهوية الأخلاقية عند المسلم هي التي تمنحه شجاعة
الاستشهاد ولذّة التضحية من أجل قضية عادلة. فحسّ "الهوية" عنده هو حسّ
"العدالة".. حسّ الحقيقة.. حسّ الحقّ، هو يموت مطمئنا.. مرتاح الضمير. هذه
"الهوية" الإسلامية هي نقيض الهوية الغربية الأمريكية.
لقد تجلّت أمام أعيننا تبعات صدمة "العولمة" في حياتنا
وعلى "هويتنا الثقافية، فما العمل؟ فعلا.. حسّ الهوية في الإسلام هو حسّ
العدالة والتساوي والإحساس بالكينونة الفردية التي تمثّل الإنسانية كلها:
ـ لكن كيف يكون الدفاع عن هذه الكينونة في زمننا هذا؟
ـ كيف نواجه المخاطر التي تهددنا؟
ـ ما هي الوسائل التي نواجه بها المعارك الغير البريئة ضدّنا؟
المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري ينفي نفيا قاطعا
أن حدث في التاريخ البعيد أو القريب أو حتى في المستقبل أن التهمت ثقافة ـ
ما ـ ثقافات أخرى وتولّت مكان الريادة وحدها بعد أن قضت على الثقافات
الأخرى وطمست "هوياتها ": ((ليست هناك ثقافةٌ عالمية واحدة، وليس من
المحتمل أن تُوجد في يوم من الأيام، وإنما وُجدتْ، وتُوجد، وستُوجد ثقافات
متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخّل إرادي من أهلها على
الحفاظ على كيانها ومقوّماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى
الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسّع، ومنها ما ينعزل
حينا وينتشر حينا آخر.
إذن، الهوية الثقافية كيانٌ يصير، يتطوّر، وليست معطىً
جاهزا ونهائيا. هي تصير وتتطور، إمّا في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه
الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم، انتصاراتهم، وتطلّعاتهم،
وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويّـات الثقافية الأخرى التي تدخل
معها في تغايرٍ من نوعٍ ما.))
وحتى نخرج من الجدل الفارغ وحوار الطرشان، ونتجاوز
الموقفين السائدين: موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلّي والتلويح
بالماضي المشرق والتشبث بما قام به الخلف وما ينجرّ عن ذلك من تخلف حضاري،
وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري،
شعاره "الانفتاح على العصر" و "المراهنة على الحداثة" أو نحن ننتمي إلى
"الثقافة المتوسطية" بالدرجة الأولى كما هو في خطاب نُخبٍ عندنا.
في اعتقادي أن كلا الطرحيْن منافٍ لسيرورة التاريخ،
وينطلقان من موقع ضعف، ومن عقل غير واثق بنفسه ويشكّ في قدراته ومداها،
ويستقبل ما يجري في العالم المعاصر ـ بعقل مستقيل ٍـ لا يرى صاحبه مخرجا
من المشاكل إلاّ بالهروب منها.
((إن حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية لا تقل عن
حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بدّ منها لدخول عصر العلم
والتِّـقانة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية. إن حاجتنا إلى تجديد
ثقافتنا وإغْناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومة الغزو الكاسح الذي
يُمارسه على مستوى عالمي إعلاميا وبالتالي إيديولوجيا وثقافيا. المالكون
للعلم والتقانة، لا تقلّ عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بدّ
منها لِمُمارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقانة.. دخول الذوات الفاعلة..
المستقلّة وليس دخول "المنفعل".
نحن في حاجة إلى التحديث كفاعلين مساهمين ولكن في حاجة
إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال
والتلاشي.)) [
23]
يتبع